منذ ساعات الصباح الأولى، وأنا أطالع أخبار اليوم الأول للدوام الرسمي عقب عطلة عيد الأضحى، كان المشهد حادًّا كحد السكين، مسؤولون ببدلاتهم الأنيقة، يخطون بثقة أمام العدسات، كأنما خرجوا لتوّهم من صالة بروتوكول لا من صلب معاناة الناس، ويسيرون بين الموظفين بعبارات جاهزة عن "الانضباط" دون أن يرمق أحدهم جيبًا فارغًا من المرتب، أو عينًا أطفأها العيد بلا كسوة، ولا قدرة على شراء أضحية.
لم تكن تلك الزيارات مجرد تفقدٍ إداري، بل تجلٍّ فجّ لفجوة طبقية تتسع في مؤسسات يُفترض أنها تأسست على مبدأ العدالة.. مسؤولٌ يعبر أمام الكاميرا كمن يدوّن حضوره في سجل المشهد، لا ليحلّ أزمة، بل ليؤكّد تمثيله، متوشحًا بهالة من المظهر لا المعنى، لا يتجه إلى المكاتب، بل إلى دفاتر الغياب، يُقلب الأسماء كأنها أرقام، دون أن يرفع عينيه إلى وجوه بالكاد تملك ثمن قلم لتوقيع حضورها الباهت!
لم تكن الجولة الرقابية إلا مرآة مشوّهة لواقعٍ مقلوب، حيث الكرامة تُفَتَّش، والحاجة تُؤجَّل، والوظيفة تنقلب من حقّ إلى محاكمة يومية يُدان فيها الموظف على فقره، لا على غيابه!
يا هؤلاء.. تأكدوا بأن الموظف الذي يوقّع اسمه يوميًا، لا يفعله خوفًا من التفتيش، بل لأن ضميره لا يسمح له بالغياب، رغم غياب راتبه الطويل، ولا ينتظر من يراقبه، بل من ينصفه، ولا من يسأله: "لماذا تأخرت؟" بل من يهمس له: "هل تعيش؟"
الانضباط لا يُقاس بالتوقيع، بل بكرامة مصانة، وحقٍ مصروف، وإنصافٍ يعيد المعنى للولاء، وحين تتخلف الدولة عن أبسط التزاماتها، يصبح القانون سيفًا على رقبة المنهك، لا ميزانًا للعدل، فالوظيفة ليست قيدًا، بل عقد كرامة، والمسؤول الحقيقي هو من يرى الإنسان قبل اللائحة، والحاجة قبل الإجراء، والكرامة قبل كل شيء.
وعندما يتحوّل أول يوم بعد العيد إلى عرضٍ للابتسامات وربطات العنق، بينما المرتب غائب، والحياة تضيق، فذاك ليس تفقدًا، بل مَشهَد مُنمَّق على حساب من لا يملكون رفاهية التجميل.
وفوق أرصفةٍ نسيها العدل، خطا المسؤول ببدلته المكويّة، بينما مرّ الموظف بجسدٍ أثقله العيد والدَّين، وتحت لافتات "الانضباط الوظيفي" لم يُسمَع السؤال الأهم: من يُحاسِب من، حين تغيب الدولة عن وعدها، وتختزل السلطة حضورها في مشهد بلا روح؟!
نبراس الشرمي
رئيس تحرير موقع باب نيوز