كان اليمانيون نخبة العرب وصفوتهم؛ سياسياً وأدبياً وتجارياً ولغوياً وحضارياً. وعلى مدى آلاف السنين طمحوا إلى التوسع الحضاري خارج حدودهم الجغرافية والعرقية وصولاً إلى المستوى القومي، وكانوا واعين بقدرتهم على إنجاح هذا الحلم. فقد مثّلوا النموذج الذي يضرب به العرب المثل في الثراء والشجاعة والنفوذ والصناعة والحكمة.
جاء الإسلام ليضيف للتفوق اليمني بعداً آخر. فبعد أن كانت اليمن مهوى قلوب العرب وعقولهم، انفتحت الجزيرة العربية على اليمنيين حين سارعوا إلى الإيمان واحتضنوا النبي في يثرب وناصروه.
انصهر اليمني مع المسلمين خارج أرضه، وأثرى التجربة الجديدة وتقدم الصفوف في شتى المجالات بما لديه من تراكم معرفي، فأفاد واستفاد، معلناً تدشين مرحلة أوسع للنموذج الحضاري اليمني.
لكن الانفتاح يعني التأثير في الآخر والتأثر به، إيجاباً وسلباً، وهذا ما حدث حين تسارعت الخلافات الفكرية بين المسلمين؛ بين سنة وشيعة وخوارج وغيرهم. وكلما كنت مؤثراً صرت متأثراً أكثر، وهذا حال اليمنيين.
انخرط أجدادنا في الصراعات للحفاظ على ما حققه العرب، وكانوا في الصدارة منذ بعثة النبي. اجتهدوا وحاولوا إنقاذ الحلم، لكنهم كانوا يقسّمونه أكثر فأكثر. ولم تعد المؤثرات عربية خالصة تقف عند انحيازات القحطانيين في مواجهة العدنانيين، بل تجاوزت ذلك.
وبدلاً من الطموح والانفتاح، اختار اليمنيون الانكفاء والانطواء على أنفسهم حفاظاً على رأس المال وكل ما كانوا يملكونه قبل الدولة الإسلامية، بعد أن تلاشت الفائدة المرجوة من الحلم.
غير أن دخول الإسلام ليس كخروجه؛ فالدخول اختيار، أما التراجع فيُعد رِدّة ويستجلب الجيوش. وإن نجحت في صدّها، فلن تسلم من الدعاة وأفكارهم الوافدة.
وهذا ما وقع بالفعل حين قَدِم الهادي الرسي، ومنذ ذلك الحين واليمن تعيش عزلة عن محيطها: لديها نزعة للتوسع وتفتقر إلى الانفتاح على الآخر. فنشأت بينها وبين جيرانها مشاعر عدائية قوامها التهديد المتبادل. ومع مرور ألف عام، لم تعد تملك النموذج الجاذب للآخرين ولا النوايا الطيبة للتعايش معهم.
إن دائرة العزلة هذه يجب أن تُكسر، وتراكم الأفكار المغذية لها ينبغي أن يُحرق. فاليمن ليست جزيرة نائية في أقاصي البحار، بل حضارة وجغرافيا تقع في قلب العالم، وامتداد ثقافي عميق في صميم العالم العربي.