تقرير: فتحي أبو النصر
عن وكالة أنباء الشرق الأدنى - عن الوكالة الشرقية للانباء.
في الوقت الذي تحترق فيه اليمن على جبهات متعددة، وتُداس فيه الشرعية بكل وضوح تحت أقدام المشروع الإيراني، يخرج علينا طيف ما يسمى بـ"الطرف الثالث"، أو "المبادرة البديلة"، أو "مشروع الحوار المستأنف"، كأنما البلد ينقصه حوارات، لا مواقف.
هؤلاء، الممسكون بعصا المواقف من المنتصف، يظنون أن اللعب في المنطقة الرمادية يمنحهم حصانة سياسية، وغطاء وطني، بينما الواقع أنهم مجرد أدوات مساعدة في مختبر طهران السياسي. لأن الوقوف في المنتصف في معركة بحجم اليمن، ليس حيادا، بل انحياز مبطن لإطالة أمد الحرب، وتمكين الح..وثي، وتقويض الشرعية، تحت لافتات براقة وشعارات خادعة.
لا بد أن نبدأ من "وزير الخارجية الأسبق"، الذي اختار توقيتا غريبا ومريبا للعودة إلى الساحة عبر ما يُسمى "مبادرة مأرب"، والتي تتقاطع بوقاحة مع المشروع الح..وثي تحت لافتة السلام.
لكن ليس صدفة أن تأتي مبادرته بعد أن أفرج الحوثيون عن ممتلكاته التي كانت "مصادرة" – بزعمهم – بعد اتهامه بالخيانة العظمى.
طبعا عزيزي القارئ، ليست هذه رواية بوليسية، بل سيناريو تمثيلي سقيم، رجل كان حليف النظام السابق، ثم هاجمه الحوثيون، فصادروه، ثم أعادوا له كل شيء، والآن يخرج مبادرا للحوار من الخارج، بتزامن مدروس مع تصعيد الح..وثيين في الداخل. إذا كان هذا لا يسمى تنسيقا، فماذا يسمى؟ تدليك سياسي؟!
أما الرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد، فهو يُبدع في تبني فكرة المشاركة الحوثية في الحكم، ويدعو لما يُشبه "مجلس قيادة توافق وطني" بنكهة الطائف والمجلس الرئاسي اللبناني، ويؤيد أن يكون للجنوب حصته، بل ويُطرح اسمه، ويا للعجب، ليخلف العليمي في رئاسة المجلس الرئاسي!
لم يخبرنا الرجل، ولا من يروجون له، كيف يمكن لعلي ناصر أن يجمع بين طهران والانتقالي والحوثي والعربي والدولي في حقيبة واحدة.
لكن يبدو أنه يسعى لرئاسة اليمن كأنها "إدارة فندق خمسة نجوم"، كل جناح له مالكه، والمهم أن نرضي الجميع، ولا يهم من ينهب الثلاجة.
أما السيد محمد أبو لحوم، فرغم خروجه من عباءة النظام السابق، إلا أنه يستمر في تسويق نفسه كوجه "شبابي حداثي"، بينما يتحرك كعجوز سياسي يعرف من أين تؤكل الكتف. حديثه عن أن يكون الرئيس من الجنوب "ليس فقط في الفترة الانتقالية، بل التي تليها"، يبدو بريئا في ظاهره، ولكنه في جوهره تلغيم مستمر لملف الدولة، وشرعنة لتفخيخ الوحدة.!
هذا الرجل الذي كان عضوا في لجنة تحديد الأقاليم، لم ينبس ببنت شفة عن الحوثي وهو يلتهم الإقليم الزيدي ويقضم صنعاء، لكنه فجأة يرى الحل في توسيع المجلس و"دمجه" مع الحوثي، و"توزيع" السلطات بحكمة اقتصادية!
فيما يبدو أن أبو لحوم لا يرى في اليمن سوى سوق، لا دولة.
وبلاشك فإن الحديث المتصاعد عن تشكيل قيادة جديدة لليمن يكون فيها علي ناصر رئيسا، والقربي نائبا، وأبو لحوم رئيسا للحكومة، ليس سوى محاولة انقلاب جديدة، ولكن بنكهة مخملية هذه المرة.
أي بدلا من البندقية، يستخدمون البيان، وبدلا من المدرعة، يحشدون المؤتمرات الصحفية، والحوارات الزائفة.
بمعنى أدق إنها محاولة للالتفاف على الشرعية، وتكرار للمؤامرة بأدوات أكثر تهذيبا، وأكثر تمويها. وكأن المشكلة في العليمي، لا في الانقلاب الحوثي. وكأن الأزمة في الشرعية، لا في الذين تحالفوا مع القتلة وساوموا على دماء اليمنيين من فنادق الخارج.
واليوم، لا خيار أمام اليمنيين إلا أن يختاروا بين الأبيض والأسود، بين مشروع الدولة وبين مشروع العصابة.اذ لا مكان للرمادي.و من يساوي بين القاتل والمقتول، هو شريك في الجريمة. ومن يطالب بإدماج الح..وثي في الحكم قبل أن يسلم السلاح ويعترف بالشرعية، إنما يطالب بمنح القاتل وسام شرف.
وأما الشرعية، رغم كل ملاحظاتنا عليها، هي الخيار الوحيد المتبقي لبقاء اليمن دولة موحدة.
رشاد العليمي، بخبرته وعلاقاته، هو آخر أوراق الضغط في يد الدولة اليمنية أمام العالم. ضرب هذه الورقة الآن، يعني إسقاط آخر أسوار الشرعية، وفتح الطريق أمام جحافل الحوثي كي تكتب دستورها في صعدة.
ولقد آن الأوان لأن نواجه الحقيقة: كل مبادرة لا تنطلق من مرجعية الشرعية، وتحت مظلة العليمي ومجلس القيادة الرئاسي، هي مبادرة خيانة. وكل دعوة لقيادة بديلة، أو توسيع المجلس لاحتواء الحوثي، أو إعادة تدوير أسماء النظام السابق بحجة الخبرة، ليست إلا عودة مقنعة للوصاية.
ثم إن ال..حوثي لا يريد شراكة، بل سلطة.و إيران لا تريد سلاما، بل نفوذا. والطرف الثالث؟ لا يريد سوى موقع في الصورة، حتى ولو كان ذلك على أشلاء وطن.
لهذا نقولها واضحة: من ليس مع الشرعية، فهو مع الانقلاب. ومن لم يحدد موقفه الآن، فليذهب إلى الجحيم السياسي غير مأسوف عليه.
فاليمن لم تعد تحتمل ترف الحياد. والدم اليمني أغلى من كل المؤتمرات، والمبادرات، و"حكماء الطرف الثالث".
بقي أن ملفت عنايتكم:
علي ناصر محمد، رغم "الوحدوية" التي نجلها ونحترمها، لا يزال يلهث خلف السلطة كما يلهث العطشان وراء سراب. رجل ارتوى من دماء يناير، ولم يشبع من الأضواء. يطل علينا اليوم من لندن، يغازل الحوثي، ويطبطب على الانتقالي، ويغازل الشمال والجنوب كمن يخطب ود الجميع ليعود رئيسا، وكأن اليمن صندوق قديم نسي في درج مكتبه.
أما القربي، فيشبه ظلا يمشي دون ملامح. بلا شخصية، بلا موقف. يمارس الدبلوماسية كأنها نشرة طقس، يتحدث عن السلام بينما المال المصادر يعود إليه بقدرة قادر من خزائن ال..حوثي! فأي سلام هذا الذي يبدأ بالإفراج عن العقارات وينتهي بمبادرة؟!
فيما يأتي الدور على محمد علي أبو لحوم، الرجل الذي يتحرك كأنه يدير منظمة بيئية غير حكومية، يتنقل بين كندا والقاهرة ونيويورك، ثم يحدثك عن مستقبل اليمن كما يتحدث مدير مشروع عن تمويل جديد.
تحديدا يتنقل بـ"دأب" سياسي سلس، لا يترك عاصمة إلا ويطرق بابها، والآن يريد دخول روسيا أيضا!
يا عيني يا ليل،و كأنها رحلة سياحية في جغرافيا الأزمة.
وللأسف الشديد في هذا المشهد، اليمن تُختزل إلى مناصب وتكتيكات وتحالفات ناعمة. لا دماء، لا جبهات، لا وجع شعب. فقط طموح مريض يكسوه قناع الوطنية. وهذه ليست سياسة، بل كذبة حزينة تكرر نفسها.
بل لقد اختلطت الخيانة بالابتسامة، والطموح بالخديعة، حتى لم نعد نميز بين الساعي إلى السلام، وبين من يجهز على ما تبقى من الوطن تحت لافتته!
ذلك أننا أمام ثلاثي البهلوان السياسي... فيا للألم، ويا للضحك المر.
علي ناصر محمد، ما زال يتقمّص دور "الزعيم العائد"، يلمع سيرته بفرشاة وحدوية منتهية الصلاحية، يوزع الابتسامات الفاغرة في مقابلات الـ"بي بي سي"، ويخطط لمجلس رئاسي يشبه مائدة عشاء بلا طباخ، فيما نسي أن التاريخ لا يُنسى، وأن الدم لا يجف بالنسيان.
أما القربي، فلا تدري إن كان رجل دولة، أم متقاعد ملول قرر فجأة أن يصبح وسيطا للسلام. بلا لون، بلا موقف، يتنقل بين عواصم التواطؤ كطرد دبلوماسي قديم لا أحد يفتحه.
وأبو لحوم؟ هذا طراز نادر من البهلوانات... يسافر، يطرح، يصرح، يتحدث عن الاقتصاد كأنه يدير متجرا إلكترونيا، بينما البلاد تُنهب من الوريد إلى الوريد. فيما يخطط للروس وكأنهم ينتظرونه على المطار!
والحال أن سفرياتهم المكوكية على حساب من؟! الشعب يأكل التراب، وهم يتنقلون بدرجة رجال الأعمال. من نيويورك إلى موسكو، ومن لندن إلى القاهرة، وكأنهم يطاردون حلاً في المطارات.
أما المنظمات، فهي الممول السخي لهؤلاء البهلوانات السياسيين.. تصنع منهم "صناع سلام" على ورق، وتمنحهم المنصات والتذاكر والفنادق، وكأنهم حماة الإنسانية!
و بينما الشعب يحترق، تُنفق الملايين على مهرجي المرحلة، تحت لافتة السلام المدفوع مقدماً.
لنخلص إلى أن هؤلاء ليسوا مشروع إنقاذ. بقدر ما هم ارتداد باهت لماض انتهازي فاشل، وبروفة حزينة ليمن بلا ملامح.
والمؤلم؟ أنهم يضحكون... ونحن من يدفع الفاتورة.!