لم تكن مأساة أبين الأخيرة مجرد حادث مروري عابر، بل فصلًا جديدًا من مسلسل الموت الذي يلاحق اليمنيين على طرقٍ متهالكة تحوّلت إلى مقابر مفتوحة. ففي لحظات، تحوّلت حافلة ركاب إلى كتلة لهب، وامتلأت الأجواء بصراخ الضحايا الذين حاصرتهم النيران في “عقبة العرقوب”، أحد أكثر الطرق خطورة في جنوب البلاد.
أكثر من عشرين إنسانًا قضوا احتراقًا، تاركين خلفهم مشهدًا صادمًا هزّ وجدان الشارع اليمني وأعاد طرح الأسئلة المؤجلة: من المسؤول؟ ولماذا يتكرر هذا المشهد القاتل دون تغيير؟
وجع جماعي وغضب متصاعد
على مواقع التواصل الاجتماعي اجتاحت صور ومقاطع من مكان الكارثة، ترافقت مع موجة غضب وحزن عارم. ناشطون وصفوها بـ”الفاجعة الوطنية”، فيما اعتبرها آخرون دليلاً على “تآكل مؤسسات الدولة” وعجزها عن أبسط مهامها في الرقابة والإنقاذ.
المحامية هدى الصراري وصفت ما جرى بأنه “كارثة إنسانية بكل المقاييس وجريمة إهمال تتحملها مؤسسات الدولة”، مشيرة إلى أن فرق الإنقاذ لم تصل إلا بعد أن التهمت النيران الحافلة بمن فيها. وأضافت: “حتى المعدات التي أرسلت لاحقًا تعطلت في الطريق، في مشهد يختصر حجم العبث.”
طرق متهالكة ومستشفيات عاجزة
كارثة العرقوب ليست الأولى، لكنها الأكثر مأساوية. فطريق “أبين–شبوة” الذي يسلكه آلاف المسافرين يوميًا يفتقر إلى أبسط مقومات السلامة: لا إنارة، لا لوحات تحذيرية، ولا حتى شبكة اتصالات في أجزاء واسعة، ما يجعل الاستغاثة في حالات الطوارئ شبه مستحيلة.
وما يزيد الطين بلّة أن المستشفيات الواقعة على الخط الدولي تفتقر للتجهيزات الطبية الأساسية، في ظل غياب سيارات إسعاف مهيأة للتعامل مع الإصابات الحرجة. يقول أحد المسعفين المحليين: “النجاة في مثل هذه الحوادث تعتمد على الحظ، لا على النظام.”
حافلات الموت… خردة تُباع على الأرواح
الصحفي فتحي بن لزرق كشف جانبًا مظلمًا آخر من المأساة، قائلاً: “الكثير من حافلات النقل العاملة في اليمن تُشترى من مزادات خارجية بعد انتهاء صلاحيتها القانونية، ثم تُعاد للعمل داخل البلاد دون أي رقابة أو فحص فني حقيقي.”
وأضاف أن كارثة أبين ليست استثناءً، بل حلقة من سلسلة حوادث بلغ عددها أكثر من 14 خلال السنوات الست الماضية، متسائلًا: “كيف تحصل هذه الحافلات على تراخيص تشغيل وهي بالكاد تصلح لنقل المواشي؟”.
“طريق الموت” شاهد على الغياب
الناشط نجران سويد وصف الطريق الرابط بين أبين وشبوة بـ”طريق الموت”، مؤكدًا أن الحوادث المتكررة على المسار ذاته تُعدّ “صرخة استغاثة لم تجد آذانًا تسمع”.
أما الناشط فكري مقفع فذكّر بأن الحادث الأخير هو الثالث في الموقع نفسه، معتبرًا أن “تكرار الكارثة يعني وجود خلل منهجي لا مجرد صدفة مؤلمة.”
دعوات للتحقيق والمساءلة
عضو مجلس الشورى علوي الباشا بن زبع دعا إلى تشكيل لجنة تقصّي حقائق لمحاسبة كل المقصرين من شركات النقل وصيانة الطرق والدفاع المدني والسلطات المحلية، مؤكدًا أن “الدماء التي تُراق على الطرق ليست أرقامًا في بيانات المرور، بل أرواح تُزهق بفعل الإهمال.”
وجع لا يحتمل التأجيل
بين حرائق الحافلات وصمت الجهات الرسمية، يقف اليمنيون أمام مشهد مأساوي متكرر: طرق تبتلع المسافرين، ومستشفيات لا تستقبل إلا الأشلاء.
وفي ظل غياب خطط واضحة لصيانة الطرق وتأهيل مرافق الطوارئ، يبقى “طريق العرقوب” وغيره من طرق اليمن شاهدًا على مأساة وطن يئن تحت وطأة الإهمال، بانتظار أن يصحو أحد قبل أن تشتعل الحافلة القادمة.