يعيش شرق البحر المتوسط واحدة من أكثر مراحله توترا في العقود الأخيرة، حيث تتقاطع التحركات العسكرية المصرية والتركية مع تصعيد إسرائيلي على أكثر من جبهة.
في الوقت نفسه يحاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقديم نفسه كوسيط، عبر دعوة قادة دول عربية وإسلامية للاجتماع بشأن غزة، لكن الغياب اللافت لبعض القادة الكبار يثير أسئلة بشأن مدى جدية المبادرة الأميركية. وبين المناورات البحرية المشتركة، وصفقات السلاح، والتحركات السياسية، تتشكل لوحة إقليمية متشابكة، عنوانها الأبرز: الاستعداد للحرب كشرط للسلام.
مناورة بحرية غير مسبوقة بين مصر وتركيا
لأول مرة منذ 13 عاما، تشارك قوات من الجيش المصري في الأراضي التركية ضمن تدريب بحري مشترك يعرف باسم "بحر الصداقة 2025"، يستمر حتى السادس والعشرين من الشهر الجاري.
هذه المناورات، التي تتضمن فرقاطات تركية وزوارق هجومية وغواصة ومقاتلات F-16 إلى جانب وحدات بحرية مصرية، تمثل نقلة نوعية في التعاون العسكري بين البلدين.
أكد الخبير العسكري والاستراتيجي سمير راغب في حديثه لبرنامج "التاسعة" على "سكاي نيوز عربية" أن هذا المستوى من التعاون غير مسبوق خلال ربع قرن، مشيرا إلى أن العلاقات بين القاهرة وأنقرة خلال السنوات الخمس الماضية اتجهت نحو تصفير المشاكل، وفتح قنوات تعاون في مجالات متعددة، من التصنيع العسكري المشترك إلى المناورات البحرية والبرية والقوات الخاصة.
راغب لفت إلى أن هذا التقارب يجد أساسًا له في تشابه تسليحي وتاريخ عسكري مشترك، فضلا عن مواجهة الطرفين تهديدات مباشرة لأمنهما القومي، خصوصا من إسرائيل. وأوضح أن أعلى درجات التعاون العسكري هي التدريبات المشتركة، وهي مؤشر على تنسيق سياسي يتجاوز المناورة العسكرية إلى رسم مواقف إقليمية مشتركة، لا سيما في الملف الفلسطيني.
إسرائيل تعيد رسم المشهد في قبرص
في المقابل، كشفت تقارير عن تسليم إسرائيل لمنظومة دفاع جوي متقدمة من طراز باراك MX إلى قبرص، قادرة على اعتراض الطائرات المسيّرة والمقاتلات والصواريخ المجنحة بمدى يصل إلى 150 كيلومترًا. خطوة من شأنها أن تغيّر معادلات التغطية الجوية في شرق المتوسط، وتفتح الباب أمام تصعيد محتمل مع تركيا.
وزارة الدفاع التركية علّقت بلهجة حذرة لكنها حازمة، مؤكدة أنها تتابع التقارير عن كثب، وقد اتخذت كل الإجراءات اللازمة لضمان أمن "جمهورية شمال قبرص التركية". أنقرة حذرت في الوقت نفسه من أن التسلح المستمر من الجانب القبرصي قد يفضي إلى "عواقب خطيرة".
هذه التطورات تأتي بينما تعمل تركيا على مشاريع استراتيجية دفاعية كبرى، من بينها مشروع "القبة الفولاذية" المضادة للطائرات المسيّرة والصواريخ، إضافة إلى بناء ملاجئ في مختلف المحافظات، في خطوة تعكس استشعارها لاحتمالات المواجهة.
مصر وتحصين أمنها القومي
إلى جانب المناورات، تواصل القاهرة تطوير ترسانتها العسكرية وتنويع مصادر السلاح. فقد كشف موقع "تاكتيكال ريبورت" أن مصر تجري حاليا محادثات مع شركة الدفاع السويدية "ساب" لشراء طائرات متعددة المجالات للإنذار المبكر والتحكم المحمول جوًا. هذه الخطوة تأتي في سياق مواجهة المخاطر الأمنية المحتملة، وعلى رأسها المخطط الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من غزة باتجاه الحدود المصرية، وهو ما تعتبره القاهرة تهديدًا استراتيجيًا مباشرا.
شدد راغب على أن الجيش المصري قادر على حماية الأمن القومي المصري والعربي، مؤكدًا أن أي تعاون عسكري مع تركيا لا يعني الدخول في تحالف دفاع مشترك، لكنه يرسّخ تنسيقا مهما بين قوتين إقليميتين كبيرتين.
الدور الأميركي بين المبادرة والاتهامات
في ظل هذا الغليان، حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يعيد الإمساك بخيوط المشهد، فدعا قادة السعودية والإمارات وقطر ومصر والأردن وتركيا وإندونيسيا وباكستان إلى اجتماع على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث ملف غزة. لكن غياب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان أثار علامات استفهام حول جدية المبادرة.
ترامب، الذي تباهى أمام الجمعية العامة بإنهاء 7 حروب منذ عودته للرئاسة، حمّل حركة حماس مسؤولية استمرار الحرب في غزة، معتبرًا أنها رفضت ما وصفه بـ"الحلول المنطقية". في المقابل، يرى مراقبون أن واشنطن تواجه اتهامات متصاعدة بالانحياز التام لإسرائيل، وأن أي مبادرة لا تمارس ضغطا فعليا على حكومة نتنياهو لن تُفضي إلى تهدئة.
التقاطع المصري التركي يبدد هوامش إسرائيل ويكشف عزلة نتنياهو
راغب قدّم قراءة عميقة للتقاطع المصري التركي في اللحظة الراهنة. فهو يعتبر أن التعاون العسكري يعكس تقاربا سياسيا في ملفات عدة، أبرزها القضية الفلسطينية. وأوضح أن كلفة إسرائيل السياسية نتيجة الحرب في غزة تجاوزت مكاسبها الميدانية، إذ أصبحت صورتها متآكلة أمام المجتمع الدولي.
كما أشار إلى أن أي تبريد للصراع لن يتحقق إلا بضغط مباشر على نتنياهو "للنزول من شجرته"، وأن الخسائر السياسية التي تكبدتها تل أبيب نتيجة الدماء الفلسطينية التي نُقلت صورها للعالم تفوق أي إنجاز عسكري على الأرض. وأكد أن رفض مصر المطلق لفكرة التهجير يمثل عنصرا جوهريا في مواجهة المخطط الإسرائيلي، وأن قطر تتحرك بدورها للتسريع بوقف الصراع.
راغب شدد كذلك على أن تركيا، بحكم وجودها العسكري على حدود إسرائيل للمرة الأولى في التاريخ، لم تعد قادرة على التعاطي مع تل أبيب كصديق محتمل، وأن احتمال الانزلاق إلى مواجهة يبقى واردًا، خاصة في ظل تصاعد التحرشات الإسرائيلية في سوريا.
بين المناورات المصرية التركية، والتسلح الإسرائيلي في قبرص، والتحركات الأميركية في نيويورك، يقف شرق المتوسط على فوهة بركان. القاهرة وأنقرة تبعثان برسالة واضحة بأنهما لن تقفا مكتوفي الأيدي أمام أي تهديد لأمنهما القومي، فيما تراهن إسرائيل على تغيير قواعد اللعبة عبر خطوات استفزازية قد ترتد عليها سياسيًا وأمنيًا.
أما واشنطن، فبينما تعرض وساطة مشروطة، يظل غياب قادة عرب كبار عن الاجتماع مؤشرًا على أن ثقة المنطقة في قدرة ترامب على تقديم جديد لا تزال محدودة.
الصورة الأكبر تكشف أن التوازن في شرق المتوسط يعاد تشكيله بالقوة العسكرية والتحالفات الطارئة، فيما يبقى مصير غزة هو الامتحان الأصعب لكل الأطراف: هل يكون مدخلًا لتسوية إقليمية، أم شرارة لحرب أوسع؟